ديل بوسكي

كتب: رأفت ساره

موقفان يدلان على عظمة الاب والإنسان عند المدرب الإسباني فيثنتي ديل بوسكي، موقفان يمران مرور الكرام عند 99% من مدربي كرة القدم حول العالم ، لكن ديل بوسكي كان الاستثناء الذي أحب ان يخبر محبي كرة القدم ان هذه اللعبة فيها من الأخلاق والإنسانية وروح الأسرة ، أكثر مما فيها من تقصي النتائج واللعب من اجل الفوز وحده.

الابن المثالي

Spain’s King Juan Carlos (2nd R) embraces coach Vicente del Bosque

الموقف الأول ويتعلق بمساندته “الأبوية” للحارس ايكر كاسياس حين كان يواجه الأزمة تلو الأزمة مع مورينيو ، ايكر كان يخطئ ويخطئ وديل بوسكي كان يغفر ويغفر، لان كاسياس رمز وقامة كبيرة ، ورغم وجود دي خيا وفيكتور فالديس وراينا الذين قال عنهم ديفيد فيا ان وجودهم في اي فريق هو ” رفاهية” ..فقد ظل معتمدا على كاسياس في أحلك الظروف حتى لا يشعره بانه غير مرغوب فيه ، او يسير مع موجة مورينيو الذي جلب دييغو لوبيز ليتابع ايكر المباريات من على المدرجات؟
وهذا يعني بكل بساطة ان بوسكي رفض معاملة كرة القدم وكأنها عبارة عن  مجموعة من الإحداثيات الفيثاغورسية أو الفلزات الكيميائية أو حتى مجموعة ارقام في الكومبيوتر، وعليه فان اي خطأ يقترفه كاسياس يعني خسارة نقاط في ترتيبه ،،بوسكي رفض منطق الرياضيات والفيزياء والكيمياء وابقى على الحس الإنساني والأبوي الذي يقتضي ان يقف الأب الى جانب ابنه في الضراء قبل السراء ..ولهذا بقي كاسياس الرمز ، كاسياس الذي مد قدمه ليبعد كرة روبن الى كورنر ليوصل بلاده للنهائي الذي ساعد هدف انيستا في تزينه خزانة الاتحاد الإسباني باإلى لقب عالمي ، لأول مرة في تاريخه في كاس العالم بجنوب افريقيا 2010، وبعد عامين ابقى عليه ليجلس مرتاحا في نهائي اليورو امام ايطاليا التي التغت كليا واستسلمت للرباعية ؟
تغير اللروخا ، وتغير كاسياس الذي بدأ يمر بلحظات شك ، وانهمرت الأهداف من هولندا في الكاس التالية ، وبقي كاسياس في المرمى لان الاب ، رفض ان ينمحي سجل ابنه التاريخي، بمنشفة مبللة بخطأ أو خطأين أو حتى ثلاثة.!

“الابن الضال”
بروح الاب، بل والمدرس الاكاديمي للطلاب الصغار استشعر ديل بوسكي ان من واجبه الحفاظ على الأخلاق التي تعلمها منذ ولد يوم 23 ديسمبر 1950 ، أي منذ انتفضت أوروبا على الحربين العالميتين الأولى والثانية وعلى المثل والأخلاق والبرجماتية والبورجوازية التي جعلت العالم في مهب ريح شيطان الحروب ، ولهذا لم يأنس ويعجب بما فعله دييغو كوستا تشيلسي أمام الارسنال ، فلم يشأ ان ينادي للمنخب الأحمر لاعب مشاغب ، مسكون بالحماقة أحيانا وبروح التحدي غير المحسوب، لتمثيل فريق عرف عنه الأخلاق ، التي يستدل عليها محبو الإحصائيات من عدد البطاقات الصفراء والحمراء القليلة التي ينالها الفريق قياسا بعدد المباريات، ولهذا يصعب حتى على التاريخ كله أن يتذكر لهذا المنتخب اية زلات أوخروج كبير عن نص الأخلاق والمثل العليا ، فمذا فعل مع كوستا العصبي؟

لقد نحى كوستا جانبا ، بغض النظر ان كان يحتاجه او لا يحتاجه ، وفضل الأخيرة ،اي ان يغض الطرف عنه فلا يحتاجه ، أو لنقل لا يحتاج روحه وطريقته في التعامل مع المستجدات في فريق كان فيه انيستا وتشافي يلعبان الكرة دون ان يعرقلا لاعب خصم متعمدا ، حتى راموس وبيكيه الذين يعلبان في مركزين حساسين يقتضي اعاقة الخصوم ، كانا نادرا ما كانا يقومان بذلك وبالتالي نادرا ما كانت تحتسب ركلات جزاء ضد اسبانيا مع ديل بوسكي.


“بابا نويل”
لكل ذلك يمكننا ان نتفهم لماذا ينتصر ديل بوسكي الاب ويغفر للحارس واللاعب ان أخطأ مرة واثنتين وثلاثة كرويا ، لكنه لا يغفر له ان أخطا اخلاقيا ولو مرة واحدة .
ديل بوسكي ، يحمل اعوامه ال65 على جسد ضخم ، وشوارب كثة وراس كبيرة ، لكن كل الصفات لا تعادلها صفة واحدة ، صفة تختزل ديل بوسكي وهي كلمة “أخلاق” ولمن لا يعرف الكثير عن ديل بوسكي نذكر معلومه تجعل منه قريبا من ميسي،، وتتعلق بكون هذا الرجل الضخم الصحيح الجسم الممتلئ القوام والهيئة ، ضعيف البنية ، نعم ولست انا من يقول ذلك ، فريال مدريد رفض ان يتقبله موسم 70-71 بسبب فشله في الاختبارات البدنية، فتمت اعارته لفريق كاستيلون الذي كان يلعب في الدرجة الثانية، وبالفعل كن يصاب المسكين كثيرا بسبب ضعف بنيته البدنية لكن اصراره وعزيمته القوية التي ربما كان يستمدها من الفارو ..جعلته يصبح الهداف الذي فاز مع ريال مدريد بثنائية الكأس و الليغا 74-75 ، كما تكررت ثنائية الكأس و الليغا مرةً أخرى في موسم 79-80 “ومرة واحدة مواسم  1975-1976 و 1977-1978 و 1978-1979 ، و كأس ملك اسبانيا  1973-1974 و 1980-1981” ، و بذلك يكون ديل بوسكي فاز مع ريال مدريد بـ9 بطولات خلال 11 موسماً .
أما كمدرب فقد قاد الفريق عام 1999 و في أولى مواسمه جلب دوري أبطال أوروبا على حساب فالنسيا 3-0 في باريس ، في الموسم الذي يليه فاز ديل بوسكي بالليغا للمرة الثانية، و في موسم 2001-2002 فاز بدوري أبطال أوروبا 2-1 في جلاسكو ، وكأس الانتر كونتينانتال عام 2002 ، و كأس السوبر الأوروبي عام 2002 ، و كأس السوبر الاسباني مرتين عام 2001 و 2003.

الابن المريض

في الحقيقة ، يقوم ديل بوسكي المتزوج من ماريا ديلا سانتيميا ترينداد” تريني” برعاية ابناؤه الثلاثة وهم فنست البنت الكبرى 24 وجيما الفارو22 وديك 18 عاما ، ولابنه الفارو معه حكاية خاصة ، فالفارو هذا مصاب بمتلازمة داوني “اي ولد منغولي” وسيم، يرتدي النظارات الطبية حديثا لضعف في بصره، وعنه يقول ديل بوسكي ” حين ولد بهذه الحالة بكيت كثيرا، لكني بت ادرك بعدها انها هبة الله ، وانه يجب ان اعتني بها، وبمرور الوقت صار الجزء الأفضل في حياتي ، لقد قال لي انك ستفوز بكاس العالم وسأحمل الكاس معك ، وتحققت رؤيته ، كاسياس وراؤول تفاءلا بذلك حين سمعاه ، وهما يحبانه كثيرا”.
في كتاب رياضي صدر في اسبانيا  ” 39 قصة وقصة عن التضامن الكروي” يروي ديل بوسكي الكثير من القصص الإنسانية عن ابنه الوسيم ” كلما عدت للماضي ، تذكرت كم كنت بائسا حين حزنت لوجوده على تلك الهيئة ، الان احس بعظمة وهبة الله لي ولزوجتي “. ولكل ذلك انضم ديل بوسكي لمؤسسة خيرية تعنى بمرضى متلازمة داوني ، وهو وابنه الثاني ديك وحتى راؤول وكاسياس يشاركون هؤلاء المرضى الفرح والسعادة .


ويضيف “في البداية كان من الصعب تقبل مرضه جدا، كلما كنت المسه كنت احس بشيء غامض يسري بدمي ، هكذا وضع يجعلك دائم الحساسية ، يجعلك تقدر قيمة الأشياء التي تفقدها قبل تلك الاشياء التي تمتلكها، انت تحس بنسبية الأشياء ” هكذا برر ديل بوسكي شعوره تجاه الفارو عام 2003، في مقابلة مع صحيفة” ABC “..والتي اختتمها بعبارة “انها بركة تعم الجميع”.وقد ورث الفارو حب الكرة من ابيه ، وهو ابن عاطفي جدا، وبات الاب يستجيب لرؤيته وطلباته خصوصا تلك التي تتعلق براؤول وكاسياس ، وربما لهذا السبب ظل كاسياس اساسيا مهما أخطأ. ديل بوسكي كان قد وعد ابنه الفارو بان يجلس في باص اللاعبين ان فازوا بكاس العالم بجنوب افريقيا ، والفارو كان هناك وحمل الكاس وصافح رئيس الوزراء الإسباني وكل محبي الفريق الذين طافوا بالكأس في مدريد.

الابن الوفي


تلقى ديل بوسكي مكافأة غريبة من ناديه الريال حين فاز للمرة 29 بلقب اللاليجا 2003 ، ولم تكن المكافأة لتخطر على بال ، وهي تتلخص بحشره في زاوية الاهمال والنسيان وتركه يغادر اسوار القلعة البيضاء بحجة ان خططه قديمة بالية ، والمدهش انه كان يحس بذلك فقد قال في مقابلة اذاعية «كلنا تراودنا احاسيس ما، وانا اشعر اني لن ابقى».
وحين حدث ذلك ، لم يقل ديل بوسكي الوفي اية كلمة سيئة بحق ناديه ومن أقاله ، ليكون درسا وعبرة للأجيال ، وقد رد على رئيس النادي برد ابلغ ، بعدما جلب للبلاد بأسرها لقبي كاس العالم واليورو ..رغم ان خططه بالية قديمة ولا تواكب العصر ..كما قالوا ، وليس كل مايقال صحيح ، والدليل نتعلمه من طريقة ديل بوسكي في التعامل مع ابناءه اللاعبين أكثر مما نتعلمه من ارقامه المدهشة والكثيرة ، فصاحب الملامح الشامية أو الشرق اوسطية عموما ، يحمل قلبا كبيرا وعقلا أكبر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.