سليم حمدان..ولادة من رحم المعاناة
رؤية: رأفت ساره
لم يسمح الضبع والشتاء لعائلة أبي سليمان بالاحتفال بثالث أفرادها.. (سليم)الذي انشقت ليلة 9-11-1948عن ظهوره الأول في ليلة ماطرة.. طرز السواد ساعاتها الأخيرة.. والخوف من الضبع الضال الذي كان يحيل كروم (ديرغسانه) التي ارتحلت إليها عائلة (علي) من (كفر عانه) بعد نكبة فلسطين الى دقائق مفزعة كلما سمع في الجوار صوته المنفر..ولهذا كان لا بد من وضعه في (لجن) أو (طشت) أكبر لحمايته من الضبع والشتاء حتى الصباح، الذي انبجس ليفرج عن رضيع الأم الذي وضعته تحت الشجرة القريبة من عريشتهم ..ويعطيه المزيد من أوكسجين الحياة ..وضوء النهار!
وتوالت النهارات الاعتيادية في حياة سليم حتى دخل شهره الثامن الذي مشى فيه قبل أقرانه
ليشكل سابقة أنبأت عن نبوغ طفل غير عادي!
تلك المشية المبكرة ..كانت تعرف بالفطرة أنها لن تتكرر كثيرا ولهذا بادرت لاقتناص الوقت طمعا في أيام عادية – من حيث المشي- اكثر!
فقد حملت ليلة أخرى …سوادا آخر للقب الصغير..وهذه المرة وبعكس الولادة الباردة..اعترت الجسد النحيل قشعريرة ساخنة …كان لا بد للتغلب عليها من زيارة الدكتور (جودت تفاحة) الذي لم يكن أحد أشهر أطباء نابلس وحدها بل فلسطين بأكملها !!
صباح تلك الزيارة المشؤومة.. ..لم يكن مماثلا لصباح ثاني أيام الولادة التي أعطت الدفء والنجاة لسليم الرضيع من برد الشتاء و(حركشة) الضبع!!
فقد أعطى الدكتور جودت تفاحة الطفل الصغير إبرة مسكنة سكنت ما كان في عضلات اليدين والفخذين من حركة فأصابتها بالشلل !!
..لقد تحول سليم بـ(جرة إبرة) الى شخص غير سليم، وبات اسم عائلة الدكتور (تفاحه) رمزا لثاني عملية اغتيال للإنسانية ..بعدما قضمت حواء جزءا منها فأنزلت آدم من الجنة ..فيما أدخلته الثانية إلى (نار ) الإعاقة الحركية!
..أحس الدكتور بالذنب فظل يراقب (ضحيته) عن بعد دون أن تعلم!
وأحست العائلة بالشفقة على وليدها فميزته بالمأكل والملبس ..وأسلمت أمرها إلى الله الذي أوحى للطفل الذي أصيب بالكساح لثلاث سنوات أن يبادر بنفسه لإيجاد الحل الذي استعصى علميا.. بعدما استسلم الآباء لرؤية القدر!!
..وقدمت جذوع الذرة التي تعرف بـ (القصل) الحل، فقد كانت الجدار الذي بنته العائلة بعدما تخلصت للمرة الأولى من الخيمة التي أهديت لهم في مخيم بلاطه حيث ارتحلت العائلة عام 1952…!
و(القصل) حزم من جذوع الذرة التي كان يخلفها الفلاحين وراءهم بعد الحصاد، وكان تجمع (الدزينة) منها بشكل متجاور لتربط كحزمة متراصة لتشكل ما يمكن اعتباره حائطا يشكل جزءا من العريش الذي يؤوي العائلة التي تضم ( أربعة أشخاص تضاعفوا على مهل فيما بعد)!
وبدأت حكاية الشفاء من شق صغير في القصل أوحى الله للطفل الكسيح ان يستغله لمراقبة شقيقه سليمان وهو يلهو مع أقرانه ..ليتآنس برفقته ولهوه ..وكأنه معه!!
وذات يوم …وبعد تمارين غريزية انتصب سليم واقفا واخذ بالتنقل مستعينا بجذوع الذرة ليراقب أخاه وأقرانه وليراقب – مندهشا – أمه التي لم تستطع حجز زغرودة انطلقت من حنجرتها لتعبر عن بهجتها بعودة الحركة لمن ظنته مشى في شهره الثامن كـ (بروفة) لمسرحية لم تر النور!!
ولعب الحاج عبد العفو العالول الذي يعمل في مطحنته ويقيم في بستانه والد سليم وعائلته، دور الأم الرؤوم للعائلة كلها ولسليم بشكل خاص، فقد تعاطف معه وأضحى يحثه على التعلم كأقرانه لما لمس منه ذكاءا لافتا!
كان يقرأ ويكتب ويحفظ عن ظهر قلب ما يتلوه الأطفال في الجوار ..وصارت قصيدة(عنترة) والنشيد الوطني للجزائر والأردن (موطني ودمت يا شبل الحسين) تسليته وبطاقة تقديم نفسه للناس الذين صار يمتعهم مجالسته رغم صغر سنه، والتفت ابن عمه (سعدو ) لتفوقه المستتر فقرر إظهاره للناس ولهذا اصطحبه للمدرسة الابتدائية ليصبح مستمعا وهو ابن أربع سنين ،وسمع المدير (ابو جواد) بحكايته فتعاطف معها ولهذا سمح ببقائه بين من فاقوه سنتين من العمر وفاقهم ذكاءا وحسن انتباه !
وفي الفصل الدراسي الثاني نسي المدير ان يخرجه من الصف كي لا يراه موجه الوكالة (غالب القدومي) فيحسبه بين الطلاب الأصليين ولهذا تم اعتماده كطالب في الأول الابتدائي بعدما لاحظ القدومي سرعة بديهته وحسن خطه وكثرة ما يحفظ من أناشيد !
لتبدأ فصول جديدة من حياة مدرسية حالمة جميلة زادتها رومانسية تعاطف نسوة المخيم مع الكسيح الذي صار يمشي – على مهل – ويفعل ما يقوم به أقرانه بمهارة استحقت قبلاتهم ونظراتهن الحانية!!
في المدرسة، تم التعرف على كرة القدم بشكل أوسع ففيها كان سليمان يمارس اللعبة وكان سليم يختار المرمى ليحرسه من خطر الخصوم نظرا لبطىء حركته، وكان مهما – بعد إتقان اللعبة- اثر ممارستها في الجبال والوديان من تأسيس فريق للمدرسة.
ومن هنا بدأت روح تحمل المسئولية وإدارة الفرق الرياضية تبزغ عن الفتى الذي أيقن أن حركته لن ستخذله في (المهمات الصعبة) لذا توجب عمل دوري بين الصفوف ومن ثم المدارس وطبعا كان سليم في الموقع السليم!!
والتفت لهذه الموهبة مدير مدرسة مخيم جنين عام1956 المرحوم عبدالواحد الهندي الذي كان أشد السعداء برعاية أول نهائي لمدرسته التي كان طلابها يتابعون – بالتوارث- أخبار صوت العرب ونتائج العدوان الثلاثي على مصر، وتبعا لذلك كان لافتا لكنه لم يكن مفاجئا أن يغني الجميع بين الشوطين
(الله اكبر فوق كيد المعتدي
الله للمظلوم خير مؤيد
الله اكبر يا بلادي رددي)
..مصر خرجت فائزة فنالت تعاطف العرب
ونال الفائزون بالمباراة ..مساطرا وأقلاما.!!
وبالطبع تشجع المدير لعمل فريق، استعرض عضلاته في منطقتي نابلس وجنين وقلقيلية ..وفي المدرسة الإعدادية اكمل المدير (أبو جواد القادم من يافا) المهمة وأعطاه شرف تكوين فريق للمدرسة بعدما تأكد أنه( الكسيحة الذي سبق ورافق فرق الابتدائية)..!!
..وفي مكتبة المدرسة كانت تتواجد –بانتظام- جريدتا الأهرام والمصور فتنمت لدى الطفل متعة القراءة الرياضية منذ الصغر فولد سليم حمدان الصحفي الذي كانت بدايات (حبوه) في عالم (صاحبة الجلالة) عمل جريدة حائط تحكي أخبار الانتصارات الطلابية مصحوبة بصور المصور (المعتمد) في المخيم… و(فيروز)!!
وفي فناء نادي مخيم بلاطة صار مسؤولا عن الفتيان وكان واحدا منهم بل أبرزهم!
وبز أقرانه في لعبة الشطرنج وحصل على بطولة المملكة على مستوى الناشئين لمستوى مراكز الشباب والتي أقيمت في مخيم العروب بالخليل عام1962.
..وبمرور الوقت صار المجتمع المحلي يعتمد عليه – بدلا من العكس – بعدما صار له فكره وجهده ونتاجه ..فاصبح جمل المحامل الرياضية!
مفتاح غرف الرياضة صار في جيبه ومسؤولية تكوين فرق المدرسة الإعدادية صارت مسؤليته الأثيرة ..ولوحة إعلانات النتائج صارت قبلة روحه التي يطلق فيها العنان لعقله وقلمه ..لان يبيحا بأسرارهما..على الحائط!
..الفرق بين المخيم والمدينة، تمت إذابته في العطلة الصيفية حين كان يتم إحضار المدرسين لاعطاء دروس مبكرة جعلت أبناء المخيم (أشطر) من أولاد(الذوات) في نابلس!
وتم بالتالي تأنيب مدرستي الجاحظ والغزالية لانهما رفضتا أبناء المخيم من خلال عمل نتائج علمية ورياضية مميزة مع مدرسة (الملك طلال) التي وجدوا فيها المناخ الرياضي الذي كان يسهر على تهيئته سميح سويسه ورمزي ابو النافز الخليلي ..فتمت هزيمة (الجاحظ والغزالي ) أكثر من مرة!
وجاءت بعثة طبية مصرية أوصت بمن صعبت حركته بسبب وزنه الزائد(52كغم) بالذهاب للقاهرة لتلقي العلاج والدراسة التي كانت مدرسة (الأرومات بالقاهرة) مركزها الذي لم يكن يحوي على تخصص الصحافة الذي احبه سليم، ولهذا بات يناوب على الذهاب لصحيفتي الأهرام والهلال لمدة عام ونصف تمت إضافتها عندما عاد من مخيم بلاطة وهو حاصل على شهادة الثانوية العامة لتساعده في الحصول على دبلوم الصحافة الذي بات الشهادة الأولى لسليم الذي راسل جامعة بيروت العربية وحصل منها على بكالوريس في الجغرافيا!
وشهد عام 68 بداية اول عمل له في عمان حيث زامل المرحوم عصام عريضة في مؤسسة رعاية الشباب ومن هناك عمل القسم الرياضي بصحيفة الدفاع وبعدها الدستور ليصبح ضيف الشرف الدائم على أغلب مؤسساتنا الصحفية المعتنية بالرياضة !
وللوحدات في نفس سليم حكاية ما بعدها حكاية ،وقصة تختزل كل القصص، فقد احبه عندما كان يلاعب فرق مدن الضفة الغربية عام 58 وبدأت خيوط الحب الأول تغزل في (عقبة جبر) حين تعادل الطرفان بالنتيجة في وقت كان فيه الوحدات الاكثر خطورة ولهذا وحسما لحالة التعادل الايجابي 1-1 فقد قرر مسؤول الوكالة (الدباغ) اعادة المباراة بعد شهر!
وخلال ذلك تلقى سليم دعوة لحضور حفلة لاحد أصدقائه في الوحدات الذي صدف كان كان حديثهم اليومي عن فوز ضاع منهم مقابل حديث مماثل في بلاطة عن نقطة جاءت من فم أسد لم يزأر بعد!!
وفي يوم المباراة المنتظر تقدم الطرف الفلسطيني بهدف يتيم وجاء بين الشوطين خبر نزل كالصاعقة على افراد الفريق ..لقد قتل محمد ندى مدير المخيم المحبوب..فقرر اهل بلاطة إعطاء الكأس للوحدات واعتباره فائزا في حين بيت الأخير العكس وقام بإهداء الكأس لخصمه المكلوم!
..يومها أحس سليم بأنه أمام ناد محترم، فكبر حبه في نفس وبدأت حكاية حب من طرف واحد..مبدئيا!!
..وتوالت الزيارات الخضراء حتى صار تقليدا ان يلعب الوحدات كل ثاني أيام الأعياد (على بلاطة)..وتوالت حكايات الغرام الذي انتهى إلى أن يصبح سليم حمدان (مراقبا للمركز) وأول رئيس للنادي عام68 الى حين تسلم الهيئة التاسيسية مفاتيح الإدارة ليتم التفرغ للعمل الإداري
واعتزال العمل الاداري!!
ويمكن القول أن سليم حمدان لم ينقطع عن زيارة النادي ولو يوما واحدا (في الأحوال الاعتيادية)..!!
..الالتزام بالعمل المكتبي أراح جسد سليم فكبر وزنه وثقلت حركته فبدا يستعين بالعكازة لكن ضعف العضلات جعل الجزء العلوي من الجسم يفوق السفلي..وكان لا بد من استخدام الكرسي المتحرك للتنقل في ساحات مخيم الوحدات الذي صار سليم أحد معالمه الرئيسة..حين يمشي بين أزقته ترفرف روحه في فضاءات حالمة وتدور في أعين الكادحين والمنهكين من البعاد..وعلى جنبات الشارع رجال وأصحاب المحلات التجارية ينتظرون تحيته، ومثلهم النسوة اللاتي عدن للعب دور جداتهن اللواتي كن يقبلنه في بلاطه لانه مشى بعد كساح ثلاث سنوات..مع تبديل القبلات –لدوافع الحياء الديني – بما تجود به النفس من تحيات لا تخلو من الرقة والرأفة أحيانا!